فصل: الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الرابع من أهل الحضر

وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ‏"‏‏.‏ وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه‏:‏ فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر صعب عليه طريقه وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليها أيضاً عوائده‏.‏ وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك‏.‏ حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً‏.‏ وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها‏.‏ فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير‏.‏ فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر‏.‏ وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير‏.‏ فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر‏.‏ والله يحب المتقين‏.‏ ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكني البادية فقال له‏:‏ ‏"‏ ارتددت على عقبيك تعربت ‏"‏ فقال‏:‏ لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن لي في البدو ‏"‏‏.‏ فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب‏.‏ وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة‏:‏ ‏"‏ اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ‏"‏ ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه‏.‏ وقيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة‏.‏ داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح‏.‏ وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح‏.‏ وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح‏.‏ والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الأفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة‏.‏ فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإ شارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه وهو قوله‏:‏ ‏"‏ ولا تردهم على أعقابهم ‏"‏‏.‏ وقوله تعربت إشارة إلى أنه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون‏.‏ وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو‏.‏ ويكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة‏.‏ ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه كسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وأفضل فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه‏.‏ وعلى كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وحراسته لا لمذمة البدو‏.‏ فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب بالتعرب دليل على مذمة التعرب‏.‏ والله سبحانه أعلم وبه التوفيق‏.‏ في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والذعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد فهم غارون آمنون قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة‏.‏ وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم‏.‏ فهم دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق وبتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ‏.‏ وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئاً من أمر أنفسهم‏.‏ وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل‏.‏ وسبب ذلك ما شرحناه‏.‏ وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه‏.‏ فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة‏.‏ واعتبر ذلك في الأدميين تجده كثيراً صحيحاً‏.‏ والله يخلق ما يشاء‏.‏

  الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للاحكام

مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الأدلال جبلة‏.‏ لا يعرفون سواها‏.‏ أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه وقد نهى عمر سعداً رضي الله عنه عن مثلها لما أخذ زهرة بن جوية سلب الجالنوس وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له‏:‏ ‏"‏ هلا انتظرت في اتباعه إذني ‏"‏ وكتب إلى عمر يستأذنة فكتب إليه عمر‏:‏ ‏"‏ تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به وبقي عليك مابقي من حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه‏!‏ وأمضى له عمر سلبه‏.‏ وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك‏.‏ وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا ببأسه‏.‏ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام‏.‏ ونجد أيضاً الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً ولا لمن يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه‏.‏ وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والآخذ عن المشايخ والآ ئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقاروالهيبة‏!‏ فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس‏.‏ ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأساً لآن الشارع صلوات الله عليه لما‏.‏ أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وأدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الأيمان والتصديق‏.‏ فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم‏.‏ قال عمررضي الله عنه‏:‏ # من لم يؤدبه الشرع لاأدبه الله # حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد‏.‏ ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالآحكام الوازعة ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الأنقياد إلى الأحكام نقضت بذلك سورة البأس فيهم‏.‏ فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي‏.‏ ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب‏.‏ ولهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين والمتعلمين‏:‏ ‏"‏ إنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط نقله عن شريح القاضي واحتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط وأنه كان ثلاث مرات وهو ضعيف ولا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف‏.‏ والله الحكيم الخبير‏.‏

  الفصل السابع في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية

اعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وهديناه النجدين ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ فألهمها فجورها وتقواها ‏"‏‏.‏ والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الأقتداء بالذين‏.‏ وعلى ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله‏.‏ ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض‏.‏ فمن أمتدت عينه إلى متاع أخيه أمتدت يده ألى أخذه ألا أن يصده وازع كما قال‏:‏ والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه أحكام والمدلة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض أو يعدوعليه فإنهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم إلا إذا كان من الحاكم بنفسه‏.‏ وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً أو يدفعه ذياد الحامية من أوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة‏.‏ وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الرقار والتجلة‏.‏ وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم‏.‏ ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية وبها يكون التعاضد والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام حين قالوا لأبيه‏:‏ ‏"‏ لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون ‏"‏ والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له‏.‏ وأما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشاً من التخاذل‏.‏ فلا وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏

  الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه

وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل‏.‏ ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة‏.‏ فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك‏:‏ نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا‏.‏ فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها‏.‏ وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هومنسوب إليه بوجه‏.‏ ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها من وجوه النسب وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها ومن هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ‏"‏ بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والا التحام‏.‏ فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما‏.‏ قلناه‏.‏ وإذا كان إنما يستفاذ الخبر البعيد ضغف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الثسغل به مجاناً ومن أعمال اللهو المنهي عنه‏.‏ ومن هذا الاعتبار معنى قولهم‏:‏ النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس وانتفعت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلامنفعة فيه حينئذ‏.‏ والله سبحانه وتعالى‏.‏

  الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك

لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره ونتاجها في رماله كما تقدم والقفر مكان الشظف والسغب فصار لهم إلفاً وعادة وربيت فيه أجيائهم حتى تمكنت خلقاً وجبلة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم ولا يأنس بهم أحد من الأجيال‏.‏ بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة‏.‏ واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها إختلاط ولا عرف فيهم شوب‏.‏ وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان و طيء وقضاغة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم‏.‏ ففي ك‏!‏ واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس وماتعرف‏.‏ وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم‏.‏ وهم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم وشعوبهم وإنما هذا للعرب فقط‏.‏ قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏ تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا ‏"‏‏.‏ هذا إلى ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف‏.‏ من الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب‏.‏ وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم يكن لاطراح العرب أمر النسب وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم‏.‏ ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فأطرحت‏.‏ ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏

  الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع

اعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال‏.‏ وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنه التحم بهم‏.‏ ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر‏.‏ وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم‏.‏ وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء من ذلك‏.‏ ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه وقالوا هو فينا لزيق أي دخيل ولصيق وطلبوا أن يولي عليهم جريراً‏.‏ فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة‏:‏ ‏"‏ صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قممي ولحقت بهم ‏"‏‏.‏ وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل وجه ومذهب‏.‏ فأفهمه واعتبر سر الله في خليقته‏.‏ ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود‏.‏ والله الموفق للصواب بمنه وفضله وكرمه‏.‏

  الفصل الحادي عشر المخصوص من أهل العصبية

اعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات آخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين‏.‏ فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام‏.‏ والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة‏.‏ والرياسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكونه في الكل‏.‏ ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرياسه لأهلها‏.‏ فإذا وجب ذلك تعين أن الرياسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الآخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمت لهم الرياسة‏.‏ فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع ولا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سر الغلب‏.‏ لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بد من غلبة أحدها وإلا لم يتم التكوين‏.‏ فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية‏.‏ ومنه تعين استمرار الرياسة في النصاب المخصوص بها كما   الفصل الثاني عشر في أن الرياسة على أهل العصبية

لا تكون في غير نسبهم وذلك أن الرياسة لا تكون إلا بالغلب والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه‏.‏ فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان والاتباع‏.‏ والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب إنما هو ملصق لزيق وغاية التعصب له بالولاء والحلف وذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة وإذا فرضنا أنه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأول من الالتصاق ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم فكيف له الرياسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه‏.‏ والرياسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعتين له الغلب بالعصبية‏.‏ فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك ومنعه ذلك الالتصاق من الرياسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه وهو على حال الإلصاق والرياسة لا بد وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية‏.‏ وقد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل والعصائب إلى أنساب يلهجون بها إما لخصوصية فضيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتفق فينزعون إلى ذلك النسب ويتورطون بالدعوى في شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رياستهم والطعن في شرفهم‏.‏ وهذا كثير في الناس لهذا العهد‏.‏ فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب‏.‏ ومنه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين‏.‏ من بني عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم لحق جدهم ببني عامر نجاراً يصنع الحرجان واختلط بهم والتحم بنسبهم حتى رأس عليهم ويسمونه الحجازي‏.‏ ومن ذلك ادعاء بني عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف وغلطاً باسم العباس بن عطية أبي عبد القوي‏.‏ ولم يعلم دخول أحد من العباسيين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين وكذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس‏.‏ ولو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم فكيف تتم له الرياسة عليهم في باديتهم وإنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب وهم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم ولم يكن بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب‏.‏ وإنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتى يبعد عن الرد‏.‏ ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره وقال بلغته الزناتية ما معناه‏:‏ أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب وأما نفعه في الآخرة فمردود إلى الله‏.‏ وأعرض عن التقرب إليه بذلك‏.‏ ومن هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم والزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة وكذا بنو مهنى أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم وأمثال ذلك كثيرة ورياستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك النسب وأقوى عصبياته‏.‏ فاعتبره واجتنب المغالط فيه‏.‏ ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرياسة في هرثمة قومه وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين ودخول قبائل المصامدة في دعوته

  الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة

والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه وذلك أن الشرف والحسب إنما هو بالخلال ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافاً مذكورين تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما وقر في نفوسهم من تجلة سلفه وشرفهم بخلالهم‏.‏ والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الناس معادن‏:‏ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ‏"‏‏.‏ فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب وقد بينا أن ثمرة الأنساب وفائدتها أنما هي العصبية للنعرة والتناصر فحيث تكون العصبيه مرهوبه ومخشيه والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى‏.‏ وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب‏.‏ وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية لأنه سرها‏.‏ ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز وإن توهموه فزخرف من الدعاوى‏.‏ وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار وجدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع وهذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب وتعديد الآباء ولكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخيم ومسالكه وليس حسباً بالحقيقة وعلى الإطلاق وإن ثبت أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى‏.‏ وقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة‏.‏ وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك‏.‏ وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل‏.‏ فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت‏:‏ أولاً لما تعدد في سلفهم من الأنبياء والرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب مفتهم وشريعتهم ثم بالعصبة ثانياً وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به‏.‏ ثم انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذلة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين‏.‏ وما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون‏:‏ هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة‏.‏ وكثيراً من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان‏.‏ وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكرالحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول‏.‏ والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة ولم يتعرض لهم‏.‏ وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه‏.‏ فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط‏.‏ مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته وهم أهل الحل والعقد‏.‏ وأما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو‏.‏ وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربي في جيل وبلد لم يمارسوا العصبية ولا أنسوا أحوالها فبقي في أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق ولم يراجع فيه حقيقة العصبية وسرها في الخليقة‏.‏ والله بكل شيء عليم‏.‏